خطبه الجمعه رقم 81 فی یوم 17 جولای 2020المطابق 25 ذی القعده 1441

خطبه الجمعه رقم 81 فی یوم 17 جولای 2020المطابق 25 ذی القعده 1441

ایها المومنون و ایتها المومنات لقد تحدثنا خلال ثمانین خطبه من خطب الجمعه حول آفات اللسان والیوم اشیر الی آفة مهم من أفات اللسان الا و هي «من وصف عدلًا وقیما بلسانه و لم یلتزم بها بعمله بل عمل بغيره »، ونبداء بحثنا بذکر حدیث ورد عن الإمام جعفر الصادق : «إنّ أعظم الناس حسرةً يومَ القيامة مَن وصف عدلًا ثمّ خالفه إلى غيره»[ بحار الأنوار، ج٢ ص٢٩، حديث2.] ولاشک بإنّ من الطبيعي أن يمجّد الإنسان قيم الخير، لكنه يبقى باستمرار أمام تحدّي الامتثال لتلك القيم متى ما اصطدمت مع مصالحه الذاتيةو إنّ قيم العدل والخير تنسجم مع فطرة وعقل الإنسان، وفيها حماية لحقوقه ومصالحه، لذلك فمن الطبيعي أن يمجّدها لكن هذه القيم قد تتعارض أحيانًا، في مجال التطبيق، مع مصالح الإنسان ورغباته الآنية، فيكون حينئذٍ أمام امتحان عسير لمصداقيته، كمن يشيد بقيمة الحرية مثلًا، ثم يكون أعدى أعداء الحرية متى ما خالف تطبيقها رغبة من رغباته الذاتية. فهل يقبل المرء بهذه القيم سواء جاء تطبيقها لصالحه أم ضدّ مصالحه؟ أم أنه يقبلها متى ما كانت تصبّ في مصلحته فقط، وإذا ما تعارضت مع مصالحه فإنّ له رأيًا مختلفًا وموقفًا آخرا! اخوانی و اخواتی نحن نلاحظ خلا ل حیاتنا فی هذه الدنیا بان کثیرین من اصحاب الدنیا ینادون ويصدحون بالشعارات القيمية ليل نهار، لكن سرعان ما يفتضح موقفهم الحقيقي، عند تخلّيهم عن تلك القيم ساعة التطبيق. وهذا يشبه إلى حدٍّ ما، ذلك الشاب الذي لا يملك ثروة ولا مالًا عند بواكير شبابه، فتجده كثيرًا ما ينتقد بخل الأغنياء، وإحجامهم عن العطاء ومساعدة مجتمعاتهم، فإذا ما أتيحت لهذا الشاب الفرصة وصنع له ثروة نتيجة جدّه واجتهاده، وتهيؤ الظروف المناسبة له، ليصبح ضمن شريحة الأثرياء، فإذا به يصبح أشدّ بخلًا من أولئك الأغنياء الذي كان يكيل لهم سيلًا من الانتقادات الحادّة!. وقد تناول القرآن الكريم هذا النوع من الناس في الآية الكريمة ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّـهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّـهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾[سورة التوبة، الآيات:75-77 ].وإنّ ذات الأمر ينطبق على الشأن السياسي. فهناك جهات طالما رفعت صوتها بالشعارات عاليًا وهي في صفوف المعارضة، لكنها حين وصلت للحكم وأصبحت بيدها مقاليد السلطة، أصبحت أسوأ بمراحل ممن كان في السلطة قبلها. ولطالما تكرر هذا المشهد في عالمنا العربي والاسلامی على يد أحزاب وشخصيات.وعلى المستوى الشخصي هناك صنف من الناس، لديهم نزعة شديدة نحو تقييم الآخرين، إلّا أنّهم لا يرون أنفسهم ضمن دائرة التقييم! فأمثال هؤلاء لا يترددون في إخضاع آراء ومواقف الآخرين للمحاكمة وفق معيار القيم، فيهاجمون هذا الرأي بشدة، وينتقدون ذاك الموقف بحدّية بالغة، والسؤال؛ هو ما إذا كانت مواقف هذا الشخص نفسه وآراؤه منسجمة مع القيم التي يحتكم لها أم لا؟ ولو تناولنا في هذا الصدد مثلًا واحدًا وهو الانضباط المروري، فسنجد البعض ينتقدون بعنف المخالفين لأنظمة المرور، غير أنّهم هم أنفسهم ممن يخرق أنظمة المرور، ويبررون لأنفسهم تلك الخروقات بتبريرات واهية. وعلى غرار ذلك تجد من ينتقد غياب الانضباط عند الموظفين العموميين في الدوائر المختلفة، إلّا أنه بارع في اختلاق الأعذار لنفسه عند بروز التقصير منه شخصيًّا. من هنا ينبغي القول، إنّنا حينما نحاسب الآخرين على أساس القيم، فالمطلوب أن نحكّمها على سلوكنا وتصرفاتنا. ولعلّ إحدى القضايا الشائكة في هذا الصدد هي قضايا الرأي وحرية التعبير. فحين يتعلق الأمر بالحقّ في ضمان حرية التعبير عن الرأي فإنّ البعض يلحّ في المطالبة، وينتقد بشدة تكميم الأفواه، ويكرر الاستدلال بالآية «لا إكراه في الدين»، لكن في مقابل ذلك لا يجرؤ هؤلاء أنفسهم على ضمان حرية التعبير لأقرب الناس إليهم، من أصحاب الآراء المخالفة لاجتهاداتهم وتوجّهاتهم، بل ويزيدون على ذلك بتبرير موقفهم القمعي بقذف مخالفيهم في الرأي بأنهم من أهل الضلال، وغير ذلك من عبارات التشنيع!، فإذا كنتم أنفسكم تنتقدون الآخرين لعدم ضمانهم حرية التعبير لكم، فلماذا تتقصمون ذات الموقف، فلا تعترفون للآخرين بحرية الرأي؟ أليست هذه ازدواجية مفضوحة؟وتشدّد الشريعة على تحلّي الفردالمسلم بالمصداقية، وقرن القول بالعمل. فأيُّ شعار وقيمة يرفعها المرء لا بُدّ وأن يلتزمها هو أولًا، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[سورة الصف، الآيتان:2-3]، وعلى هذا النحو تنطوي الكتب الحديثية، من قبيل كتاب الكافي وبحار الأنوار على باب مهم بعنوان «من وصف عدلًا ثم عمل بغيره»، أو بعنوان «من وصف عدلًا ثم خالفه»، وتجمع هذه الأبواب الأحاديث والروايات التي تتناول هذا السلوك ومن تلك النصوص ما روي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «إنّ من أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلًا ثم خالفه إلى غيره»، يقول الشيخ المجلسي في بحار الأنوار بحار الأنوار. ج69، ص224 تعقيبًا على هذه الرواية: «إنما كانت حسرته أشدّ لوقوعه في الهلكة مع العلم»، أي إنّ هذا نفسه الذي يتحدث عن العدل، هو يعرف جيّدًا معنى العدل لكنه يوقع نفسه في خلافه، وكذلك الأمر مع الذي يتشدّق بالحرية ثم يفعل العكس، فهؤلاء يقعون في الخطأ مع علمهم المسبق بهذا الخطأ، ويضيف الشيخ المجلسي بأنّ هذا «أشدّ من الوقوع فيها بدونه»، أي بدون علمه، «لمشاهدته نجاة الغير بقوله، وعدم نجاته به».
وهنا تساؤل عن تفسير وقوع بعض الناس في هذه الازدواجية بين القول والفعل؟ وللإجابة عن هذا التساؤل يمكن إيراد سببين رئيسين لهذه الازدواجية:
أولهما: عدم تجذّر هذه القيم في النفوس، حيث لا تتجاوز لقلقة اللسان، كما يقول تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 167].
أما السبب الآخر: فيكمن في البيئة الحاضنة، حينما يعيش المرء في بيئة تعزّز تطبيق القيم والتزامها، فهذه البيئة ستكون مساعدة بدرجة كبيرة، وعلى النقيض من ذلك إذا عاش المرء في بيئة تسودها مخالفة القيم، وتبدأ البيئة الحاضنة بالتربية، فحين يتربى الطفل على التزام القيم في المنزل والمدرسة، إضافة إلى وجود قانون يحمي القيم ويرعى تطبيقها، ووجود رأي عام اجتماعي يعترض على كلّ مخالف لتلك القيم، هذه العناصر بمجملها تمثل بيئة حاضنة تجعل الناس يلتزمون القيم، أمّا في حال غياب هذه البيئة، فإنّ القيم تتحول إلى مجرّد شعارات، كما هو حاصل بالفعل في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فبالرغم من كثرة الحديث عن القيم إلّا أنّ واقعنا لا يزال أبعد ما يكون عنها.
ونختم حديثنا بذكر هذه القصة التي وقعت في عهد أمير المؤمنين . فقد جاء في تاريخ الطبري أنّ عليًّا قام في الناس يخطبهم ذات يوم في مسجد الكوفة، وهو الخليفة حينها، وأثناء ذلك قام رجل من جانب المسجد صائحًا بشعار الخوارج؛ لا حكم إلّا لله، فما إنْ سكت حتى مضى أمير المؤمنين في خطبته دون إبداء أيِّ ردة فعل على الرجل، فقام آخر، وثالث حتى توالى عدة رجال منهم يرددون ذات الشعار، فقال الإمام عليّ : الله أكبر، كلمة حقّ يلتمس بها باطل، ومضى يخاطبهم بالقول: أما عندنا لكم ثلاثًا ما صحبتمونا، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا، ثم رجع إلى مكانته من خطبته التي كان يخطبها؛ وكأنّ شيئًا لم يكن[ تاريخ الطبري، ج٤، ص٥٣.] .
وبهذا يرشدنا الإمام إلى الخلق الرفيع والتعامل المطلوب إزاء حالات الاستفزاز، فهو لم يسكت عنهم وحسب، وإنما أعطى بسيرته وممارسته درسًا بليغًا في عدم الاستجابة إلى الاستفزاز، بل وضمان حقوق أولئك المعارضين. هكذا ينبغي أن تتجذّر القيم في نفوسنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *